إصلاح السياسات الثقافية من قاعدة الهرم في زمن القمع؟ بقلم فيليب ديتاشمير
Feb 2019
فيليب ديتاشمير: مدير البرامج- الجوار الأوروبي في المؤسسة الثقافية الأوروبية
تنشر اتجاهات، ضمن برنامج أولويات العمل الثقافي السوري، سلسلة من مقالات الرأي بأقلام مجموعة من الخبراء والفاعلين الثقافيين السوريين وغير السوريين. يهدف هذا النشاط إلى تسليط الضوء على مجموعة من القضايا والتحديات التي تواجه العمل الثقافي السوري.
تتمتع المؤسسة الثقافية الأوروبية بتاريخ طويل وحافل بالتعاون مع الفنانين المستقلين والمجموعات الثقافية المستقلة في المنطقة العربية وأوروبا. في تسعينيات القرن الماضي، مثّل برنامج "مذكرات المتوسط" (Mémoires de la Méditerranée) للترجمة منصة مهمة للكتاب المعاصرين من مختلف أنحاء المنطقة، وساعدت كتبنا ومنشوراتنا الكثيرين على إيصال صوتهم الفني في أوروبا، وكثيرًا ما كان ذلك يحدث للمرة الأولى.
ولكن الاتحادات والجمعيات الثقافية الجديدة، التي ضمّت ناشطين ثقافيين مستقلين -مثل المورد الثقافي ولاحقًا اتجاهات- هي من تولّت زمام المبادرة في أوائل الألفية، وعملت مع المؤسسة الأوروبية الثقافية على مبادرات طويلة الأمد لصياغة مجال ثقافي جديد في المنطقة كلها. قامت رؤية هذه الجمعيات على تأسيس مشهد ثقافي جديد قائم على التواصل بين فناني المنطقة، والاحتراف الكافي لمواجهة التحديات الفنية والاحتياجات الثقافية للمجتمعات، وقادر على النمو بثبات في دول عدة من المنطقة العربية. أوجدت برامج المورد الثقافي لتطوير القدرات التنظيمية مبادرات محلية جديدة، وأظهرت برامج المؤسسة للتدريب على الإدارة الفنية للناشطين الثقافيين الجدد واقعًا من الضروري إدراكه: إن الأطر القانونية والهيكليات الحكومية متأخرة جدًا عن الاحتياجات العملية للإنتاج الثقافي المعاصر في كثير من دول المنطقة. تبين أن لتحسين ظروف العمل الخارجية وقضايا الحوكمة أهمية مماثلة لتطوير هيكليات ثقافية حديثة وسبل جديدة للإنتاج الثقافي.
أدى هذا إلى إدراك سريع لضرورة قيام حوار بنّاء حول إصلاح هيكليات الحوكمة والقوانين الخاصة بالمجال الثقافي رغم التردد المبرر، لاسيما إذا كان المطلوب تحسين البيئة التي يمكن ضمنها للمبادرات الثقافية والفنانين الجدد الازدهار والإبداع. باستلهام تجربة برنامج تعاون إقليمي آخر للمؤسسة الثقافية الأوروبية باسم "سياسات للثقافة" -الذي دعم مبادرات لإصلاح السياسات في جنوب شرق أوروبا ودول يوغوسلافيا السابقة بعد الحرب- بدأت ثماني مجموعات جديدة للسياسات الثقافية العمل بهذا الاتجاه على مستوى المحافظات والدول. استفادت هذه المجموعات من منهجيات اتبعتها جهات أوروبية، ولكن مناهج العمل الفعلية التي اتبعتها مجموعات إصلاح السياسات الثقافية في منطقة البلقان المضطربة وتجاربها ضمن واقع غير مستقر اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا، قدمت للمجموعات الجديدة نموذجًا أكثر فاعلية لصياغة عمليات الإصلاح المحلية الخاصة بها. ونتج عن عمل المجموعات العربية الرائد أول مؤتمر عربي للحوار حول السياسات الثقافية نظمته المورد الثقافي في بيروت عام 2009. وعام 2010، أدى ذلك إلى نشر أول ملف شامل للسياسات الثقافية في الجزائر ومصر والأردن ولبنان والمغرب وفلسطين وسوريا وتونس.
لا يمكن للإصلاحات أن تكون فعالة إلا إذا شارك الفنانون والمؤسسات والمبادرات، أي الجهات التي تعمل على الإنتاج الثقافي وبالتالي المعنية بهذه السياسات، في مناقشة وصياغة التشريعات الجديدة من قاعدة الهرم إلى أعلاه. كان هذا المبدأ الأساسي في برامج السياسات الإقليمية في البلقان. مع تحويله للعمل ضمن السياق العربي عام 2008، شجّع هذا النهج مجموعات السياسات الثقافية المتشكلة حديثًاعلى المضي في اتجاه مشابه. استند المؤتمر الإقليمي الأول، عام 2009، ومبادرات السياسات المحلية الجديدة مثل اتجاهات، إلى الرؤى الجديدة التي تم التوصل إليها ضمن هذه العملية. وأظهرت إجراءات لاحقة أن فتح حوار موسع حول الإصلاحات الثقافية مع الحكومات أمر ممكن حقًا، لاسيما فيما يتعلق بالقضايا التي تتمتع باهتمام استراتيجي مشترك، والجوانب العملية في الإنتاج الفني، وتنمية الاحتراف في المجال الثقافي.
بعد أكثر من نصف عقد من الحروب المدمرة، والتغيرات السياسية والاجتماعية العميقة، والتشدد المتزايد إزاء المبادرات الثقافية المستقلة والتعبير الفني في العديد من دول المنطقة، قد يبدو التطلع إلى إصلاحات تشاركية للسياسات الثقافية ومناقشة التنمية الثقافية من القاعدة إلى القمة ضربًا من الخيال. رغم ذلك، تحافظ المبادرات الثقافية التي تتعامل معها المؤسسة الثقافية الأوروبية على ثقتها بقوة التعبير الفني، وما زالت مبادرات مستقلة عديدة تؤمن "بفن العمل المدني"، الأمر الذي أصبح جليًا تمامًا عام 2011. تعمل هذه المبادرات باستمرار لصياغة رؤية لمستقبل أفضل لمجتمعاتها عبر الثقافة. وأنا على قناعة بأن عددًا من الإجراءات البراغماتية الأكثر تواضعًا والأقل ضجيجًا، ولكنها في الوقت نفسه ملموسة، ستؤدي إلى نمو في موارد المعرفة والمهارات في المجال الثقافي. من شأن هذا أن يوحد المبادرات المحلية ويهيئها لما قد يبدو اليوم مستقبلًا بعيدًا -ولكنه ممكن- تقوده الثقافة للجماعات والمجتمعات كافة في المنطقة. لذلك، لدي اعتقاد راسخ بأن بعض الإجراءات المذكورة أدناه (وغيرها الكثير) قد تمهد الطريق نحو الإصلاحات التشاركية حقًا للسياسات الثقافية في المستقبل:
- مواصة وتعميق وتوسيع تحليل السياق وظروف العمل وتطورات السياسات الثقافية (بما في ذلك المخاطر) للحياة الثقافية والإنتاج الفني في مختلف دول المنطقة العربية (وخارجها حيث اقتضى الأمر). بعد تقرير عام 2010، ما زالت ظواهر عديدة في انتظار التقييم والمقارنة والمشاركة على مستوى المنطقة (كما تفعل حاليًا المورد الثقافي واتجاهات وشركاؤها في المنطقة). ولا بد أن يتضمن هذا العديد من الجهات المهتمة في أوروبا والمناطق المجاورة الأخرى، بل والعالم أجمع، مثل تجمع السياسات الثقافية المتشكل حديثًا، وجمعية ترندز.
- تأسيس منابر جديدة سهلة الانتشار (مثل المنابر الصحفية) للكتابة حول النزعات الفنية وتشجيع التنمية الثقافية في المنطقة، بما يخلق فضاءات جديدة غير رسمية لنقاش نقدي إيجابي حول الواقع الثقافي الجديد في المنطقة. ويجب التركيز على فضاءات التفاعل الموثوقة على الإنترنت والمنصات الرقمية، التي يمكن أن تستقطب الوافدين الجدد الشباب إلى المجال الثقافي، وتشجعهم على تطوير قدراتهم التحليلية ومعارفهم ليصبحوا مصلحي السياسات الثقافية في المستقبل.
- توحيد الجهود مع مناصري الإصلاح من خارج المجال الثقافي والفني، واستكشاف مجالات التعاون الممكنة للعمل على قضايا أكبر وأكثر إلحاحًا في المجتمعات العربية. يمكن أن يتحول رواد الأعمال المهتمين بالمجتمع ووسائل الإعلام المحلية وحتى المسؤولون الرسميون في إدارات أو بلديات منفتحة، إلى مؤيدين لإرساء المزيد من التكافل وأشكال جديدة من التعاون بين الناشطين الثقافيين في مختلف أنحاء المنطقة.
- الاستفادة من الفنانين والناشطين الثقافيين الذين وفدوا إلى أوروبا حديثًا لتوسيع دائرة التداول والتعاون مع الجهات الثقافية في الخارج، بما يساهم في إشراك جاليات الناشطين الثقافيين العربية الجديدة في أوروبا لبناء المعرفة ونقل المهارات العملية إلى المنطقة العربية. يمكن أن يشكل هؤلاء أيضًا قوة ضغط لإبقاء تحديات العمل الثقافي المعاصر والتعبير الفني المستقل في المنطقة ضمن الأولويات على الأجندة الأوروبية. كذلك، يمكن لهؤلاء تصدر العديد من مبادرات المناصرة داخل أوروبا، وتقديم مقترحات عملية ملموسة لصُنّاع القرار الأوروبيين.
- إرساء ممارسات جديدة كليًا للحياة الثقافية المحلية والتعبير الفني المحلي، حيث أمكن، عبر تجريب أشكال فنية مبتكرة وإشراك المجتمعات المحلية في تجارب ثقافية فاعلة، فمن شأن هذا أن يؤدي إلى خلق واقع جديد عبر استكشاف وسائل بديلة للإنتاج، وهيكليات تنظيمية جديدة قادرة على الصمود في وجه ظروف العمل في المنطقة، وقد يكون هذا الشكل الأمثل لمناصرة فعلية للثقافة في هذه المرحلة.
- النقطة الأهم هي الحفاظ على الأمل والإلهام عبر مواصلة تصور وخلق وإنتاج مشاريع وتجارب فنية جذابة وذات معنى.