في الأوقات المظلمة: أفلام لمراسلة أصدقاء غائبين
أناييس فارين
حائزة على الدكتوراه في الدراسات السينمائية | قيّمة وباحثة في المجال السينمائي
في أيام كيومنا هذا، إذا سارت الأمور بالاتجاه الصحيح، تبزغ مظاهر إنسانية جديدة. ولكي نستطيع تقديرها كما يجب، يكفي أن نعود إلى ناثان الحكيم وحكمته الأساسية "يكفي أن تكون إنسانًا" التي تقود مسرحيته. إن النداء الذي يهيمن على كل المسرحية والذي ينسجم تمامًا مع هذه الحكمة هو "كن صديقًا".
هانا آرندت، "عن الإنسانية في الأوقات المظلمة": انطباعات عن ليسينغ. في الحياة السياسية، دار غاليمار، 1974، الصفحة 20
شاشة سوداء، يدخل صوت المخرجة: "أين أنت اليوم ياعمر؟"، تفتتح ساندرا إيشه فيلمها قطع، حوار مع عمر أميرالاي 2015 وكأنه تتمة لحوار بين صديقين، انقطعا عن بعضهما وهاهما يعادوان التواصل. تظهر صورة أميرالاي في وسط الشاشة في اللحظة التي يبدأ فيها بالإجابة[1]، وفيما يتقدم الحوار تترافق صورته مع مقاطع مختارة من أفلام أخرجها عمر أميرالاي بين الأعوام 1974-2003 في مواضع متعددة من الشاشة مع الحفاظ على كونها إطارًا ضمن الإطار.
في كانون الثاني/يناير من العام 2011، قبل شهر واحد من وفاته، سجلت ساندرا إيشه مقابلة مع عمر أميرالاي، دون أن تعلم أنها ستكون آخر مقابلاته. قالت لي ساندرا إيشه في مقابلة أجريتها معها في العام2016 ولم تنشر:
"لقد اخترت مقابلة فريق مجلة لوريان إكسبرس وبعض المتعاونين الدائمين معها وأشخاصاً أعلم أنهم كانوا مقربين من النهج الفكري لسمير قصير. لم يكن عمر أميرالاي من المتعاونين الدائمين مع المجلة ولا من الكتاب المتكررين، ولكن مقابلة معه منشورة في المجلة في عدد تشرين الثاني/نوفمبر من العام 1996 حول فيلمه الصادر حديثًا في حينه حول ميشيل سورا، يوم عنف عادي، لامستني. كان عنوان المقابلة "الصديق الغائب". وتحدث فيها عمر عن مسؤولية الصديق، وتساءل عن سبب ضياع معنى الصداقة شيئًا فشيئًا كمحرك للفعل واللقاء والوصل والإخلاص. ويشعر المرء فيما يقرأ المقابلة أنه مشارك في هذا الإهمال لمعنى الصداقة. شرح عمر أيضًا في اللقاء المصاعب التي يواجهها في تحويل مشاعره إلى صورة وممانعته الحديث عن الموت وعن صديق ميت. وقال إنه يخشى إن تحدث عن موت الآخرين أن يخسر ما كان يموت في داخله معهم. استهليت بحثي حول كُتّاب مجلة لوريان إكسبرس في العام 2008، وكان دافعي الأساسي هو فهم اغتيال سمير قصير وربما محاولة تقبله، تقبل موت صديق وفهم الظروف السياسية التي مرت في حينه. ولعل هذا ما لامسني في مقابلة عمر أميرالاي تلك."
يبدو لي ممكنًا تحليل عدد من الأفلام السورية المنجزة منذ العام 2011 استنادًا إلى المشترك في فيلمي ساندرا إيشه وعمر أميرالاي، بالإضافة لمسألة الصداقة المركزية في كلا الفيلمين، وكيفية إنتاج المخرجين لموضوعة الصديق الغائب من خلال الصورة. أولئك الأصدقاء الذين سجل المخرجون صورهم الأخيرة دون أن يعلموا أنها ستكون كذلك، والتي يرغب المخرجون في تحويلها إلى تكريم لأصدقائهم الراحلين. يتابع المخرجون عملهم بتركيب اللقطات الأخيرة التي صوروها أو حتى إدخالهم لقطات مصورة من شاشة كومبيوتر تشهد على آخر المحادثات التي حظوا بها مع الصديق بعد مغادرتهم سوريا. ما هو نوع العلاقات التي يؤسسها هذا الفعل؟ يبدو لي أن هذا التساؤل حول السينما يحول مسألة الجمهور المستهدف لهذه الأفلام والمشاهد التي تلامسه في نطاق أقل مباشرة وأكثر رحابة، مع الاستمرار في دراسة الأثر المحتمل لهذه الأفلام وقدرتها على توليد استجابة من المشاهد.
تتمثل المسؤولية تجاه الصديق الغائب التي تحدث عنها كل من عمر أميرالاي وساندرا إيشه وشرحا بحثهما من خلالها عن التعبير الإبداعي في القرار الذي اتخذه دلير يوسف باستكمال العمل الذي بدأه باسل شحادة، الناشط والمخرج السينمائي الذي قتل في إحدى هجمات النظام السوري على مدينة حمص في العام 2012. يرغب دلير يوسف بنقل الرسالة التي كان صديقه يحلم بإيصالها بإخلاص، ويشرح كيف عمل انطلاقًا من اللقطات التي صورها باسل شحادة من أجل إنجاز فيلم أمراء النحل (2014) قائلًا:
"أردت أن يكون الفيلم على سوية عمل باسل وأن يكون تكريمًا لذكراه. تواصل معي الناشط وسيم الحسن الذي كان يمتلك حقوق الفيلم وطلب مني إكماله وقررت أن أفعل ذلك محترمًا المحتوى والأسلوب[2]." يقدم الفيلم مجموعة مقابلات مصورة في الظلام أو بلقطات دون وجوه لعدم الإفصاح عن هوية المشاركين في شهادات تتخللها لقطات من المظاهرات. ينقل فيلم أمراء النحل من خلال تلك الشهادات شعورًا جمعيًا بالمصير المشترك الذي يقرب الناس من بعضها ويواجه بذلك بروباغندا النظام الطائفية.
إن كان ارتباط عمر أميرالاي وساندرا إيشه المشترك بذكرى صديقهما سمير قصير الذي اغتيل في العام 2005 هو ما جمعهما ولم يكونا قد التقيا قبل المقابلة، فأن فيلم قطع، حوار مع عمر أميرالاي تحول بدوره إلى تكريم للمخرج السينمائي، الذي قدم فيه شهادة فريدة مستندًا إلى النوع الخاص الذي اقترحته ساندرا إيشه للمقابلة[3] بحيث يرتبط المشاهد بآليات اللقاء التي تحول الواقع العبثي إلى مادة تبعث على السخرية بل وحتى الضحك من خلال دعوة أميرالاي إلى الانضمام للعبة التي اقترحتها إيشه. تعتمد هذه اللعبة على استخدام بروتوكول أداء استعارته إيشة من الفنانة والباحثة مانويلا زشنر، التي اقترحت أن يضع الأشخاص الذين تمت مقابلتهم أنفسهم بالطريقة التالية: "نحن في عام 2030 ونتذكر أحداث اليوم".
لا يدعي عمر أميرالاي واقعًا بديلًا للسوريين واللبنانيين رغم ما تتيحه المقابلة من نظرة نقدية ساخرة ومسافة زمنية مفترضة من الزمن الحالي. ويستخدم أميرالاي التاريخ المتخيل للمقابلة ليسخر من الحاضر، ولا يستثني نفسه من تلك السخرية. تلك السخرية من الذات نفسها التي استعملها في أفلامه، والتي شرحها في مقابلة أجراها معهه سمير قصير وعمر بستاني[4] ويحاول من خلالها إشراك المحاور وبالتالي المشاهد لاحقًا في الحوار نفسه. يستند عمر إلى تواطؤ واثق مع اللعبة المقترحة، وتبدو ضحكة السينمائي المجروحة صوتًا يمهد المجال للصداقة. ويضيف إلى السخرية في فيلم قطع اللحظات التي يدعي فيها عمر أنه نسي أسماء ويدعو ساندرا إلى إعادة إنتاج هذا الخطاب التاريخي والسياسي معه، ويطلب المغفرة على ضعف الذاكرة. كما يفسد عمر بشكل مرئي الديناميكية الزائفة ذات الاتجاه الواحد للمقابلة ويعيد تشكيلها بحيث ينقلها من النظرة إلى الكلمات، بحسب تعليمات ماركر الشهيرة.[5] ويصبح هذا نوع من المقابلات ممكنًا في ظل مقاربة صانع الفيلم المختارة أثناء تسجيل المقابلة بحيث تكون ثنائية الوجهة. وقد عاد هذا النمط من المقابلات للظهور بنفس الطريقة في فيلم لسه عم تسجل؟ (2018) لمخرجيه سعيد البطل وغياث أيوب. في أحد مشاهد الفيلم، في الدقيقة الخامسة والأربعين منه، يطلب المخرج من الشخصية التي يحاورها، وهو رياضي يركض بين الأنقاض، ألا يخطب فيه وإنما أن يحدثه كما لو كانا صديقين (متل رفيقك). توضح هذه الدعوة لإعادة صياغة الحوار أمام الكاميرا في الفيلم الطريقة التي صور بها المخرجان هذه اللقطات من أجل إعادة إنتاج الأخبار. نراهما في الفيلم يحمّلان عدة فيديوهات على شبكة الإنترنت، وبذلك يمكنان المشاهدين من الاستجابة لهذه المقاطع. فيما لا يمكننا اعتبار النص الأدبي للغاية في روي فيلم 194 نحنا ولاد المخيم (سامر سلامة، 2017) علامة على شكل مبطن وشخصي للإبداع المعاصر الذي يتمتع به الفيلم الوثائقي، بل هو شكل من أشكال الخطاب الذي اعتمده الفيلم ليكون رسالة إلى الأماكن المفقودة والأصدقاء المفقودين الذين يعيشون في ذاكرة الفنان وتكاد بمجموعها تشكل جمهوره.
في فيلم يوم عنف عادي، صديقي ميشيل سورا (1996) الذي أخرجه عمر أميرالاي بالتعاون مع صديقه المخرج محمد ملص، لم يحضر عمر بشكل مباشر، بل كان صوتًا راوياً وجسدًا غير مرئي يتوجه إلى صديقه بعد عشر سنوات من رحيله. مع ذلك، ينجح أميرالاي في رسم صورته كصديق وليس فقط صورة صديقه الراحل من خلال جمع شهادات أصدقاء سورا الذين يستطيعون مخاطبة عمر براحة أو برسمية لشرح تلك الصداقة التي جمعتهم بالراحل.
يحاول المخرج أكسل سلفاتوري سينز في فيلمه الشباب، الفيلم وأنا (2019) متابعة مصير شخصيات فيلمه السابق ما يجعل فيلمه هذا فيلمًا حول فيلم آخر، ومن بين تلك الشخصيات المخرج سامر سلامة المذكور سابقًا، ولكنه في الوقت نفسه شهادة عن العلاقات ومسارها في أوقات مظلمة وسيرة ذاتية للمخرج أكسل سلفاتوري سينز الذي توفي العام 2018 فيما كان يعمل على إنجاز الفيلم، وسيقوم قتيبة برهمجي بإكمال مونتاج الفيلم بعد رحيل مخرجه وسيذكر اسم قتيبة نفسه في شارة النهاية في كل من لسه عم تسجل و194 نحنا ولاد المخيم. في مشهد صُوِّر في آب/أغسطس 2013، تتمكن إحدى شخصيات فيلم الشباب، الفيلم وأنا من الوصول إلى لبنان قادمة من مخيم اليرموك. نراها في الفيلم في لقطة من خلف ظهرها، صامتة، يظهر نص على الشاشة: "رغبت بتصويرها، طلبت إذنها، فقالت: أكسل، في هذه اللحظة أنا بحاجة لصديق وليس لمخرج".
يشترك فيلما يوم عنف عادي، صديقي ميشيل سورا والشباب، الفيلم وأنا في نقطة هي تقديمهما صورة واضحة لمخرجيهما نسبيًا، إلا أن مشتركًا آخر حاضر فيهما فجملة تسنيم في الفيلم الثاني تذكر كذلك بتصريح عمر أميرالاي في مقابلته مع سمير قصير وعمر بستاني حول الفيلم الأول: "لا بد من القول إن ميشيل لم يكن باحثًا بالمعنى الجاف للكلمة، عندما أسمع من يتحدث عنه كباحث فقط، لا أتعرف في الحديث على الشخص الذي كنت أعرف".
تكتب الرسائل إلى الأصدقاء المفقودين أيضًا من خلال ومن أجل أصدقاء غائبين بالمعنى السياسي والجمعي الذي تنسبه هانا أرندت إلى الصداقة، مستوحية من قصيدة لبرتولد بريخت ومعتمدة على كتاب ليسينغ، وتعارض روسو إذ تميز بين الصداقة والتعاطف. تسمح الطبيعة الانتقائية للصداقة بحسب أرندت بمجابهة الظلم دومًا دون الإحساس بمساواة زائفة. قد يكون الصديق المفقود غير قادر على الرد على عنف الموقف. يتألف فيلم على حافة الحياة (2017) بمعظمه من محادثات أجراها المخرج مع والديه اللذين بقيا في سوريا، ويتوقف تحقيق هذا الحوار على فترات انقطاع التيار الكهربائي، يقول ياسر كساب في تعليق صوتي إنه تحول إلى جسد مجرد من المشاعر والأحاسيس، جسد عاجز عن إيجاد إجابات لأبسط الأسئلة، جسد باق كشاهد بعيد، وهو ما يتضح أكثر في عنوان فيلمه التالي: لم أر شيئًا، رأيت كل شيء (2019). لم يتمكن بعض المشاهدين والباحثين الذين شاهدوا هذه الأفلام من الاستجابة لدعوات مخرجيها، ومع ذلك، تبقى أشكال المعالجة المستخدمة فيها تستحق الاعتراف بها وبأثرها. يتحدث إلينا المخرج في هذا النوع من الأفلام التي تأخذ شكل رسالة سينمائية -لا بد من تفسيرها في ضوء تاريخ محتمل لكتابة حكايات الصداقة- عن اتجاهات عديدة ما زالت جميعًا مفتوحة.
[1] التحليل في هذا المقال مستند إلى نسخة من عمل ساندرا إيشه عرضت في النادي السينمائي السوري في باريس عرضًا خاصًا وهي متوفرة على الرابط التالي: https://vimeo.com/178378459ولكن العمل الأصلي تم إنجازه كعرض بصري يعرض على ثلاث شاشات.
[3] يعتمد هذا النوع على استخدام بروتوكول أداء يستند إلى مقترح الفنانة والباحثة مانويلا زشنر قائم على فرضية يتبناها الأشخاص الذين تمت مقابلتهم قائمة على اللعبة التالية: "نحن في العام 2030 ونقوم بتذكر الحاضر".
[4] عندما قيل لعمر في المقابلة: "هذا فيلمك الأول الذي لا تسخر فيه من أحد" أجاب أميرالاي: "الأول؟ هو ليس كذلك، قد أنجزت عدة أفلام مثله، ولكنه الفيلم الأول الذي لا أسخر فيه من نفسي، فعندما أسخر من واقع ما لا أعزل نفسي عنه. لم أقل يومًا أنني غريب عن هذا الواقع أو ذاك، أو أنني لست جزءًا منه. إنه نوع من الهجاء يعمد إلى فرك الملح على الجرح في محاولة لإيقاظ الناس، هذا كل ما في الأمر." "عمر أميرالاي، الصديق الغائب"، مقابلة أجراها سمير قصير وعمر بستاني، لوريان إكسبرس، العدد 12، تشرين الثاني/نوفمبر 1996، الصفحة 98.
[5] أشير هنا إلى مشهد في "دون شمس" لمخرجه كريس ماركر (1983) حيث يقرأ صوت من خارج الشاشة رسائل وصور من سينمائي صديق، ويتحدث عن "النظرة المتكافئة" والتي تسترقها الكاميرا بما يسمح بالتفاعل بين الكاميرا والشاشة