العنصر الضروري: العمل مع المشهد الفني السوري بقلم ميلتسيا ليليك
Oct 2018
ميلتسيا ليليك
ممارسة ثقافية متخصصة في التعاون الدولي. مستشارة دولية في أوندا: مكتب تداول الفنون الأدائية المعاصرة في فرنسا
تنشر اتجاهات، ضمن برنامج أولويات العمل الثقافي السوري، سلسلة من مقالات الرأي بأقلام مجموعة من الخبراء والفاعلين الثقافيين السوريين وغير السوريين. يهدف هذا النشاط إلى تسليط الضوء على مجموعة من القضايا والتحديات التي تواجه العمل الثقافي السوري.
فلنبدأ هذه المقالة بحقيقة بديهية ولكنها واضحة: يتمتع مشهد فنون الأداء السوري بالحيوية والديناميكية. يتزايد حضور الكتّاب وصناع المسرح السوريين مثل محمد عطار ووائل قدور ووائل علي -على سبيل المثال لا الحصر- على المنصات الدولية، التي تشهد مقاربتهم للمسرح الوثائقي، والشِّعرية التي يجدونها في التجارب الراديكالية، وقدرتهم على المجاورة بين اللحظة الحميمية والانفجارات الاجتماعية الكبرى، وتجريبهم على صعيد الشكل (مثل اعتماد تقطيع وإيقاع لغة البريد الإلكتروني وشبكات التواصل الاجتماعي المعاصرة)، وسوف تثبت هذه الأعمال أهميتها مع الزمن.
واضح أيضًا أن المشهد السوري، منذ عام 2011، ولاسيما المسرح المستقل، مضطهد ومسجون ومحطم ومنفي. إنه ضحية العنف والقسوة، ويمر بطفرات عميقة، وبحجم ليس له نظير في تاريخنا المعاصر
ثمة عناصر تحدد هذا التحول:
- تترك تجربة الحرب والمنفى المؤلمة أثرًا عميقًا وجذريًا على العمل الفني، ويشمل ذلك الموضوعات المطروحة وشروط الإنتاج وطموحاته والأدوات الفنية والإنتاجية وإمكانيات التعاون.
- رغم وجود أعمال مسرحية داخل الحدود السورية، وتطورها في مواقع جديدة متعددة حيث ألقت بها رياح المنفى، يتوجّه المسرح السوري إلى جمهور غير سوري أحيانًا، يحمل تجارب وإحالات يمكن أن تكون مختلفة كليًا عن الجمهور المحلي.
- بالإضافة إلى ذلك، يواجه المنفيون أحيانًا ضرورة الاندماج في فضاء ثقافي وفني لا يفهمونه جيدًا، ولا يتقنون قوانينه وأعرافه وأحكامه وممارساته، وليس بالضرورة مستعدًا لقبولهم.
- أخيرًا، لا يُستهان بأثر التوقعات التي يحملها الجمهور الدولي المحترف وغير المحترف من الفنانين السوريين. يرى الجمهور في هؤلاء الفنانين، سواء أرغبوا بذلك أم لم يرغبوا، ناطقين رسميين باسم الشعب السوري، ويتوقع منهم أعمالًا تعالج، بشكل مباشر، تجربة الحرب. المساحة المُتاحة اليوم على منصات المسرح الدولية للفنانين السوريين الذين لا يريدون معالجة الحرب أو المنفى في أعمالهم، ضيقة جدًا.
تترك هذه الشروط الجديدة والتغيرات العميقة في سياق عمل الفنانين السوريين أثرًا عميقًا على الأعمال الفنية السورية. وكما تقول جمانة الياسري[1] في مقالات عدة، يجبر هذا الوضع الفنانين السوريين على خوض عملية مستمرة من التساؤل والتجريب والتطور. ونحن جميعًا شهود على التغيير الذي يمر به المسرح السوري نتيجة هذه التجارب العميقة، وسوف نرى عواقبها في الخطاب الفني، وفي النماذج التنظيمية التي ستؤطره.
ولكن، في هذه المرحلة، ما زال علينا تخيل هيكليات دعم قادرة على تقديم إطار إيجابي يرافق هذه التغيرات للاستجابة لهذا الواقع الجديد للفن السوري. كما أشارت مقالات سابقة في هذه السلسلة[2]، لا ريب أن هناك دروسًا كثيرة يمكن استقاؤها من الأمثلة الإيجابية القليلة لأشكال الدعم، ومنها تلك التي تتفاعل مع القطاع المسرحي المستقل في بيئات ما بعد الصراع في البلقان. يجب على الجهات الداعمة، مثل المؤسسة الثقافية الأوروبية أو برو هيلفتيا، الاستناد إلى الخبرات المحلية، واكتساب فهم عميق للسياق المحلي، وتقديم الدعم من دون فرض أجندة صارمة، فهذا يقدم مساعدة قيّمة (وهو أيضًا موثق جيدًا[3]).
من جهة أخرى، ثمة حاجة ماسة إلى المزيد من الدعم لتقوية العلاقة الحساسة بين الفنانين السوريين من جهة وجمهورهم (الجديد) في دول المنفى من جهة أخرى. بالتأكيد، يحمل جمهور المسرح فضولًا وتعاطفًا ويرغب في المؤازرة[4]. ولكن كيف يمكننا تجاوز الفضول السطحي، والرغبة في التلصص عبر "مشاهدة آلام الآخرين"، حسب تعبير سوزان سونتاغ؟
في تسعينيات القرن العشرين، خلال الحرب في يوغوسلافيا السابقة وبعدها، تواصلت صالات العرض والمسارح في الدول الغربية، على نطاق واسع، مع الفنانين من بلدان البلقان. توجهت مشاريع وبرامج ومبادرات متنوعة للصراع المعقد في البلقان (وإن يكن بسطحية وبصورة تعزز الأنماط المسبقة). مع تحول المصالح الجيوسياسية، تقلص حضور الفنانين البلقان في المسارح الأوروبية. بعد 25 عامًا، ومع استثناءات قليلة من الفنانين البلقان الذين يعملون في الخارج، لم يبقَ الكثير من هذا التفاعل الحيوي، فما زالت الأنماط المسبقة سائدة وما زال فنانو البلقان مهمّشين.
كيف يمكننا أن نضمن أن هذا الاهتمام بأعمال فنية تعالج هذه التجارب المعقدة والصادمة لن يتلاشى عندما تأخذنا الأخبار إلى كارثة أخرى جديدة في جزء آخر من العالم؟ كيف يمكننا التأكد من أن الجمهور سيبقى مهتمًّا بفعل التجريب الفني، وبجوهر الرؤية الفنية للعالم، بقدر ما هو مهتم بقدرة الفنانين على التعبير عن معاناة بلادهم؟
كيف يمكننا تجنب قصر أمد تركيز الاهتمام، وظاهرة "الموضة" فيما يتعلق بالمسرح السوري والفن السوري؟
لعل الحل يكمن في تعاون متانٍّ ومتعدد الأوجه، على المدى البعيد، بين مؤسسات الدعم في سوريا والشرق الأوسط وأوروبا والفنانين السوريين ومحترفي الفنون الأوروبيين والمسارح والمهرجانات الأوروبية. بهذا التعاون، يمكن لهؤلاء جميعًا ابتكار وتخيل أدوات جديدة وأنشطة مختلفة واستراتيجيات جريئة تهدف إلى المساعدة على استدامة وتنمية اهتمام المنصات الأوروبية الحالي بالفنانين السوريين.
ولكن، بالعودة إلى التشابهات بين حرب البلقان والحرب السورية، على المرء ألا ينسى أن العالم قد تغير بشكل كبير منذ التسعينيات، أحيانًا للأفضل وأحيانًا للأسوأ. فالمشهد الفني ذاته، على نطاق عالمي، يواجه عددًا من التحديات الجديدة والخطيرة، وللفنانين السوريين دور يؤدونه في هذا.
في مجتمع يمر بتحولات سياسية واقتصادية وبيئية عميقة، لم تعد النماذج التنظيمية والمالية، التي استند إليها القطاع الفني، مستدامة. فظهور أفكار سياسية محافِظة وسلطوية يفرض قيودًا مخزية على حرية الإبداع وحرية التعبير، لا في دول أوروبا الشرقية والدول العربية فحسب، بل في دول المتوسط الأوروبية والعالم أيضًا. في أماكن أخرى من العالم، تشكك الإيديولوجيا اللبرالية الجديدة التي تعم العالم في فكرة الفن كقيمة اجتماعية عامة. وباتت الدول الوطنية تثبت أنها نموذج يضيق بهوياتنا المتعددة.
في هذا السياق، هل ما زال من المنطقي إعادة إنتاج نماذج التنظيم نفسها، حيث الفنانون يبدعون والحكومات أو الجهات المانحة الخاصة تمول، والمسارح تعرض، والجمهور يجلس صامتًا ويشاهد؟
تتجه الفنون، وفنون الأداء على وجه الخصوص، نحو تجاوز الحدود بين الدول والاختصاصات والوظائف والقطاعات. ثمة الكثير من الدروس التي يمكن تعلمها من مشاريع التعاون الإبداعي، والمبادرات التي يديرها الفنانون، والتجارب التي تماهي بين الممارسة الفنية وممارسة المواطنة.
برسوخ التجربة السورية عميقًا في نفوسهم، وتوزعهم حول العالم، واضطرارهم لإعادة التفكير في ممارساتهم الفنية وابتكار هيكليات دعم جديدة ومرنة، أليس الفنانون ومحترفو الفن السوريون عنصرًا ضروريًا في تطوير النقاش حول كيفية إعادة ابتكار نماذجنا لدعم ممارساتهم الفنية؟ باضطرارهم للتجريب خارج الأطر المعتادة، لأن "الأطر المعتادة" انفجرت عنفًا وحربًا ومنفى، ألا يجب أن يكون الفنانون السوريون شريكًا أساسيًا في إعادة التفكير في بيئتنا الفنية؟
مؤازرة الفنانين السوريين، وتقديم دعم متأنٍّ، طويل الأمد، لهم ضرورة قصوى. ولكن، أبعد من ذلك، يبدو لي أن من الأهمية بمكان أن نضم أصوات وتجارب الفنانين السوريين ضمن نماذج تنظيمية تجريبية وجريئة وجديدة وراديكالية وخلّاقة، نماذج يمكنها -في مستقبل يرجّح أنه عدائي تجاه الفنون- أن تضمن للفنانين السوريين، والفنانين حول العالم، إمكانية الوصول إلى الجمهور وطرح رؤيتنا للعالم للنقاش والسؤال.
[1] Jumana Al Yasiri, Exiled Scene(s): Anchors and Displacements of the Syrian Theatre since 2011 https://www.academia.edu/16958185/Exiled_Scene_s_Anchors_and_Displacements_of_the_Syrian_Theatre_since_2011؛ و: جمانة الياسري، ""العالم كساحة معركة": هجرة الفن السوري اليوم وآفاق الاستمرارية في البلدان التي يتواجد فيها"، اتجاهات-ثقافة مستقلة، د. ت.، الرابط: https://ettijahat.org/page/190
[2] ميلينا دراغيتشيفتش شيشيتش، "التحديات التي تواجه العمل الثقافي السوري في الشتات"، اتجاهات-ثقافة مستقلة، تشرين الثاني/نوفمبر 2017. الرابط: https://ettijahat.org/page/556؛ و: Mary Ann DeVlieg : Evade, elude or – hopefully – evolve? https://ettijahat.org/page/553
[3] Philip Dietachmair and Milica Ilic : Another Europe https://www.culturalfoundation.eu/library/another-europe
[4] وإن كان لا بد للمرء من أن يرى التناقض بين هذه المشاعر التي يحملها الجمهور في فضاء المسرح، الخاضع للسيطرة، وسياسات الدول الأوروبية غير المرحبة إطلاقًا بالمهاجرين الهاربين من الصراع والفقر.