مفاهيم جديدة لأفعال جديدة بقلم سرحان آده
سرحان آده
أستاذ في قسم الفن والإدارة الثقافية في جامعة بيلجي في اسطنبول وخبير في اليونسكو
تنشر اتجاهات ضمن برنامج أولويات العمل الثقافي السوري، سلسلة من مقالات الرأي بأقلام مجموعة من الخبراء والفاعلين الثقافيين السوريين وغير السوريين. يهدف هذا النشاط إلى تسليط الضوء على مجموعة من القضايا والتحديات التي تواجه العمل الثقافي السوري.
لم يمضِ على ذلك اليوم سوى عشر سنوات. لمعت دمشق، كعاصمة للثقافة العربية، وشخصت نحوها أنظار المشهد الفني والثقافي الأوروبي. لم يقتصر ذلك على "المؤسسات" الثقافية البعثية المُدّعية، بل شمل عمل المؤسسات المدينة أيضًا، التي بدأت تتلقى عروضًا بالتعاون (ينطبق هذا علي أيضًا، فلقد كنتُ أعرف سوريا من خلال الكتب والوثائق التي اطلعت عليها أثناء إعدادي لأطروحة الدكتورة "كيف تحول سنجق الإسكندرية إلى هاتاي، 1936 – 1939"، ولكنني تعرفتُ إلى سوريا مباشرة في اجتماع نظمه البيت الثقافي الدنماركي في باحة سوق الحميدية). وكانت تلك الفترة نفسها التي شهدت تحويل رعاة الثقافة الأوروبيين (بعد المؤسسات الأمريكية) انتباههم وتمويلهم من البلقان، وبدرجة أقل، القوقاز، إلى الشرق الأوسط.
منذ قرن ونيّف، تم تنفيذ اتفاق سايكس بيكو الشهير، وبعد ثلاثين عامًا، أصبحت سوريا دولة مستقلة. ألم تشهد سوريا -التي مرت بتغييرات عديدة تحت "الانتداب المقدس" الفرنسي، فأصبحت فدرالية وجمهورية، وقُسِّمت إلى دويلات (دويلة للعلويين، وأخرى في جبل الدروز، إلخ)، وفي الأحوال كافة، كانت تحت رقابة المندوب السامي- حركات مقاومة واحتجاج متعددة؟ وكان هذا كله بعد انتزاع لبنان من سوريا وتحويله إلى دولة مستقلة. اليوم، باتت لبنان الملاذ الأهم للناشطين الثقافيين السوريين.
تكفي لمحة قصيرة إلى الماضي القريب منذ 10 سنوات، والماضي الأبعد منذ 100 سنة، لدفع المرء للتفكير بدوامة الألم الممتدة في تلك البلاد.
إذا وقع الأسوأ (الذي لم يكن في إمكان أي منا تخيله)، بل إذا لم يعد ما يقع اليوم مفاجئًا، فكيف يمكننا تخيل اتجاه نحو التحرير، أو القيامة من الأموات؟ فوق ذلك، كيف يمكن لشخص ليس طرفًا في المأساة أن يفكّ عقدتها؟
يصعب التوصل إلى إجابات منفصلة، أو إجابة مشتركة، لهذه الأسئلة. في الوقت نفسه، من الممكن الاستناد إلى نماذج سابقة، على أمل فتح النقاش والجدال.
كثير ممن كانوا يقيمون ضمن حدود سوريا قبل عقد من الزمان، توزعوا رغمًا عن إرادتهم في ثلاث دول مجاورة بشكل رئيسي. لا ينطبق على هذا المعنى الدقيق لاصطلاح الشتات. فالشتات يعني أن يترك المرء أصوله وجذوره وراءه وينتقل بجسده إلى مكان آخر. هلق يأمل السوريون المقيمون في الأردن ولبنان وتركيا في العودة ذات اليوم إلى جذورهم؟ وإذا تمكنوا من العودة، فهل سيجدون ما تركوه كما هو دون تغيير؟ لقد أصبحت سوريا اليوم مكانًا متخيلًا، وفقدت وحدتها الإدارية والجغرافية. سوريا الآن هي مفهوم وفكرة، لا يفهم المعلّقون إلا أجزاء منها.
هنا بالذات يبرز دور النوستالجيا (الحنين المؤلم)، وهو الألم نفسه الذي يشعر به من ترك جذوره ووجد نفسه عالقًا بين الرغبة في العودة وعدم القدرة على العودة.
لا بد لي من إيضاح السبب الذي يدفعني لتذكير القارئ بهذين المفهومين مستخدمًا اللغتين العربية واليونانية: أفعل هذا كي لا يُنسى أن المشاعر التي نعيشها اليوم وُصِفت قبل عصر. فلقد شهد كل عصر آلامه، والمعاناة مستمرة. ما الذي اختلف الآن إذًا؟ نعيش في مرحلة كلما ذُكرت حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية، شحّ حضور هذه المفاهيم في العالم.
إذا نظرنا نظرة أقرب إلى الشتات السوري، وجدنا وضعًا مزدوجًا. فمن جهة، هناك الملايين من الناس الذين بحثوا عن ملجأ في الدول المجاورة، ومن جهة أخرى، هناك عدد قليل من العلماء والفنانين والناشطين الثقافيين الذين يواصلون إنتاجهم وعملهم في دول أغلقت أبوابها في وجه الجموع الغفيرة. بدايةً، لا يمكننا القول إن هناك تنسيقًا أو تواصلًا بشأن اللاجئين السوريين بين الدول المجاورة الثلاث. تركيا هي إحدى هذه الدول، ورغم إدخالها نحو 4 ملايين لاجئ باعتبارهم "ضيوفًا" لا يزال العديد منهم في مخيمات، فهي أشبه بصندوق مغلق، ومن الواضح أن ظروف الحياة والتعليم للاجئين هناك متدهورة، ناهيك عن الإنتاج الفني والثقافي. ولا بد للمرء أن يأخذ في الحسبان أن تواصل من هم في الشتات مع من بقوا داخل سوريا، نصفهم دائم التنقل لأنهم يُجبَرون على ذلك عند اندلاع الصراعات، شبه مستحيل.
أما بالنسبة للوضع في تركيا، فيوجد في إسطنبول خصوصًا منظمات غير حكومية ومكتبات وغيرها تجمع الناشطين الثقافيين والفنانين. بين وقت وآخر، يشارك فنانون سوريون بصفة فردية في المعارض أو المهرجانات أو الحفلات. ولكن يصعب القول مشكلات هؤلاء الفنانين واحتياجاتهم والصعوبات التي يواجهونها في مسعاهم للاستمرار تجد مقاربة منظمة.
لا يبدو، في المستقبل القريب على الأقل، أن هذا القفل سيُفتَح، وأن التواصل سيصبح ممكنًا.
في الوقت نفسه، تكثر المنظمات غير الحكومية الناشطة خارج سوريا، يعمل بعضها بالتعاون مع المنظمات الدولية ويتلقى منها الدعم. ولكن، لا يمكننا القول إنها أصبحت "مؤسسات"، حيث تقارب كل منظمة من هذه المنظمات المشكلة من جانب محدد لتساهم في الحل على قدر استطاعتها. وينطبق هذا أكثر ما ينطبق على الفن والثقافة. حتى في الغرب، حيث أصبحت للمأسسة أصول قانونية شاملة وواضحة، لا يبدو أن مناخ الأزمة الحالي -الذي أوصل المؤسسات إلى حالة من الصدمة العميقة، حتى المؤسسات التي تُعدّ "مستدامة"- سيزول قريبًا. هذه الأزمة التي تمر بها المؤسسات تعني أن وضع الفنانين والمشهد الثقافي مضطرب وغير مستقر، وبذلك لا يبقى سوى الأفراد الذين يعملون وحدهم أو ضمن مبادرات ومؤسسات ضعيفة. ما دام هؤلاء الأفراد يحافظون على إصرارهم على إنتاج الفن والفكر والحلول، فلا بد لنا من وضعهم في الاعتبار لدى التفكير فيما هو جديد.
حتى الآن، لم نتحدث إلا عن سوريا، وذلك لأن الوضع السوري هو موضوع هذه المقالة الحقيقي. ولكن، يمكننا تطبيق الكلام نفسه على العراق وإيران واليمن وفلسطين ومصر وليبيا. ولا يسعنا إلا أن نتمنى ألا يؤدي سلوك الآخرين إلى إطالة هذه القائمة من الدول. ولكن في إطار آخر، يمكننا أيضًا تضمين تركيا واليونان وإيطاليا وإسبانيا في هذه الصورة. هذا يعني أننا نتحدث عن البحر المتوسط كاملًا، وهو ليس منطقة كبيرة جغرافيًا ولكن كونٌ كامل من التنوع. في حين تستمر جهود الأفراد، يمكننا، من جهة أخرى، ورغم المشكلات العديدة، تصور البحر المتوسط منطقةً من التكافل. في الظرف الدولي الحالي، حيث سُحِبت السيوف على موضوعات مثل التنوع الثقافي وحرية انتقال المنتجات والخدمات الثقافية والنفاذ إلى الثقافة، يتزايد التمييز بين الشمال والجنوب من حيث الحاجات والمشكلات. ورغم المشكلات والإفقار الذي يواجهه جنوب الكوكب، بات الحوار الجنوبي الجنوبي أكثر ضرورةً من أي وقت مضى.
أخيرًا، نعود إلى المفاهيم، ولاسيما المفاهيم أوروبية الأصل مثل التشبيك والدفاع عن الحقوق وبناء القدرات ونشر الأعمال الثقافية، إلخ. تم استيراد هذه المفاهيم إلى دولنا في سياق صياغة السياسات والممارسات الثقافية، واستُخدِمت على نطاق واسع. لا يمكننا تخيل حل للتناقضات والمشكلات العميقة الكامنة في هذه المفاهيم، التي كانت تنطبق على ظروف مختلفة. لقد أصبحنا الآن في مرحلة تحتاج إلى مفاهيم جديدة واصطلاحات جديدة تمهد الطريق أمام أفعال جديدة.