مشوه: الجسد موضوعًا للصراع في الفن السوري المعاصر. بقلم دلفين ليكا
Mar 2018
تنشر اتجاهات، ضمن برنامج أولويات العمل الثقافي السوري، سلسلة من مقالات الرأي بأقلام مجموعة من الخبراء والفاعلين الثقافيين السوريين وغير السوريين. يهدف هذا النشاط إلى تسليط الضوء على مجموعة من القضايا والتحديات التي تواجه العمل الثقافي السوري.
أثناء عملي خلال السنوات الماضية على تنظيم المعارض الجماعية والبرامج السينمائية للفنانين السوريين، شغلني بشكل خاص تمثيل الجسد في الفن السوري، ولاسيما الجسد العاري.
من الشائع لدى الفنانين والنشطاء المعاصرين أن يعرضوا أجسادهم العارية لإحداث صدمة واستفزاز رد فعل من المتلقي وإرسال رسالة تركز على المعارك الاجتماعية والسياسية[1]. انتشرت هذه الحركة أيضًا في دول عربية مثل تونس ومصر. ماذا عن سوريا؟ ما هو الأثر الذي تركته إعادة التقييم الاجتماعي والسياسي على صورة الجسد في أعمال الفنانين بعد مرور سبع سنوات على الحراك الاحتجاجي الذي تحول إلى ثورة؟ ما الذي كشف عنه الفنانون في أعمالهم وكيف؟
يجدر بنا العودة إلى ثمانينيات القرن الماضي، وهي الفترة التي واجهت فيها علمانية الحكومة الاشتراكية السلطوية حركات دينية. فكان من نتائج ذلك تراجع تقدمية الفن خطوة إلى الوراء ومنع العارضات العاريات في كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق، إلى جانب نتائج أخرى. ومن المفارقات أن موضوع "الشهيد" كان موضوعًا أثيرًا لدى أساتذة الكلية، أثار موهبة خاصة لتصوير المعاناة وجثث القتلى في أعمال هذا الجيل الجديد. ورغم أن حدود المسموح غير واضحة تمامًا، أدرك الفنانون أن أحدًا لن يعرض ويشتري عملاً يصور جسدًا عاريًا، لذا، كان عليهم تغيير رؤيتهم لإرضاء السوق العربية (ومؤخرًا سوق منطقة الخليج المحافِظة).
فنانون قلائل فقط عرضوا أعمالًا كهذه في دمشق، بدءًا من أواخر التسعينيات. يمكنني الإشارة إلى صور فصيح كيسو أو ليلى مريود لنساء عاريات، والرجال البدينون الموزعون على الأرض في أعمال منيف عجاج، ينظرون إلينا بغرور كاشفين أجسادهم، ولوحات سبهان آدم الكبيرة التي تصور الأعضاء التناسلية بالتفصيل. وتجدر الإشارة أيضًا إلى الأداء الطليعي الذي قدمته هالة الفيصل، التي مُنحت الجنسية الأمريكية مؤخرًا، والتي سارت عارية في واشنطن سكوير بارك عام 2005 احتجاجًا على حرب العراق. على ظهرها وساقيها وصدرها، كتبت باللون الأحمر: "أوقفوا الحرب".
مع بدء الثورة عام 2011، مثل النزول إلى الشارع والانسجام مع جسد هائل يبدو متناغمًا، كانت المظاهرة رمزًا للتجرد من أقنعة الخوف والصمت، ومواجهة سنوات التقييد والرقابة، بما في ذلك التجمع في الشوارع والتعبير الحر عن الرأي. في هذه الفترة، قررت بضع نساء، استلهمن على الأرجح حركات أخرى على شبكات التواصل الاجتماعي "نشر صور تحمل رسائل الحرية والصمود في مواجهة صور الجثث وقصص الاغتصاب والتعذيب". وبذلك، على رأي عالمة الاجتماع ناديا العيساوي، أصبح الجسد رايةً. فقد وجدت أن "الجسد، كمسرح للصراع ومشروع تحرري، أصبح قضية محورية في الثورات العربية".
ولكن، بعد زمن قصير، وقعت المجازر ردًا على الثورة، ومنذ ذلك الحين، انتشرت صور الجثث على نطاق واسع في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي. أصبح الجسد المعروض الضحية والشهيد، وكان هذا العرض أحيانًا خاليًا من الاحترام لأقارب الضحية وأحبائها، ما أثار موضوع الحق باستغلال الضعف الإنساني واحترام هوية المقتول. وأثار هذا الانتشار الجدل حول طبيعة الصور التي يتوقع من الإعلام عرضها. ما سُمي "بورنوغرافيا الحرب" ترك أثرًا على أعمال الفنانين بلا شك. ويجب مناقشة صورة الجسد العاري الحالية مع الأخذ في الاعتبار الصدمة النفسية والجسدية العميقة التي عاشها المجتمع السوري، والأثر الذي تخلفه هذه الصدمة بالضرورة على الأعمال الفنية. بعد أن تعرض الجسد إلى "التمثيل به" والإذلال، فكيف يمكننا تصوير الجسد "الحي" واحترامه مجددًا؟
تحدث مواطن اعتُقِل وحكِم عليه بالسجن وتعرض للتعذيب عن إذلاله بإجباره قضاء ساعات عدة عاريًا، وكان هذا واحدًا من إجراءات عديدة. يتصل الجسد العاري هنا مباشرة بالسياسة والعنف، ويصعب عندها تصوير الجسد من دون هذا المعنى. وعند ظهور الجسد حيًا في عمل فني، يصبح الجسد الإنساني سلاحًا له وزن سياسي، أو يصبح "آلة اغتصاب".
يمكن ذكر عدة أمثلة لفتت انتباهي، كالمشاهد التي رسمها بهرام حاجو، والتي تبدو أنها تصور لحظة بعد فعل جنسي مباشرة. تصور المشاهد شخصيات بلا عواطف، مرسومة بألوان شاحبة على خلفية بيضاء، وغير متصلة بأي مكان أو منظور أو فضاء. استخدام اللون الأحمر على أجزاء من الأجساد يخلق عنفًا قاسيًا في المشهد. النساء يُصوّرن بسيقان مفتوحة أو رؤوس مطرقة أو سيقان مرفوعة، بشكل لا يوحي بالدعوة إلى المتعة، بل بآثار فعل صادم. وتوجد مشاهد مشابهة في أعمال عادل داود، التي تمثل فعل اللمس على أجساد بلا هوية جنسية وبلا وجوه. لدى محمد عمران، يصبح استخدام الجسد العاري وسيلة للسخرية من السلطة. إنه يعكس الأدوار، ويعري ممارِس التعذيب الذي يواجه الناظر في وضعية تجعل منه سخيفًا. أما نجاح البقاعي فتصور مشاهد التعذيب والأجساد العارية في السجن، وجيلان الصفدي يرسم النساء في مشاهد عربدة طقسية يتقارب فيها الغرائبي مع الكابوسي.
في مجال الصور المتحركة، أي في الفيديو والسينما، يعمّ غياب الأجساد، عارية وحية. يواجه المتفرج الجثث والموت والفظائع. ولعل أفضل الأمثلة هو أفو كابيراليان، الذي شعر بالحاجة إلى استخدام مشاهد من فيلم أليخاندرو جودوروسكي إل توبو، ليقدم صبيًا صغيرًا عاريًا في فيلمه الذي يتناول فيه سيرته الذاتية، منزل بلا أبواب (2016). ولكن هناك استثناء يتمثل في محاولة المخرج عمار البيك (حاضنة الشمس 2012) الذي يصور زوجته أثناء الولادة. يعرض البيك صور ابنته حديثة الولادة مع صور مشوشة عمدًا على شاشة التلفزيون لجثة حمزة الخطيب وآثار التعذيب عليها، والتي صورها والد الخطيب نفسه. لا يمثل هذا المشهد أول ولادة حقيقية في فيلم سوري فحسب، بل يتساءل أيضًا عن معنى منح الحياة في زمن يتعرض فيه الأطفال للاعتقال والتعذيب والقتل. يعلق محمد عمران على ذلك أثناء حديثه عن تمثال لزوجته الحبلى: "حاولت أن أعبر عن السعادة، ولكنني لم أستطع". تصور سلافة حجازي باستمرار أجسادًا عارية تمر بالمعاناة في رسوماتها، نساء تلدن أسلحة، أو رجال يمارسن العادة السرية مع فوهات أسلحتهم التي حلت محل أعضائهم التناسلية.
تشغل الحرب والعنف الفضاء الفكري برمته. وتتمثل أعراض ذلك في أعمال يوسف عبدلكي الجديدة. تجدر الإشارة إلى التغير الكبير في الموضوعات التي يركز عليها هذا الفنان المعروف، فقد اشتهر برسم الطبيعة الصامتة أو الحيوانات الميتة معلقة بالحبال. أول تغير جرى عام 2012، حين رسم الفنان سلسلة من اللوحات عن "الشهداء". وبناءً على قراره بالبقاء في دمشق رغم صعوبة الظروف، يمكننا فهم هذا العنوان، "الشهيد"، بالنظر إلى أصل الكلمة بالعربية واليونانية، والتي تعني "الشخص الذي يموت في سبيل معتقده" وتعني أيضًا "الشاهد". انتقل الفنان من جسد الشهيد إلى الجسد العاري عام 2015. أثار معرض الاسكتشات المرسومة بالفحم، والذي أقيم في دمشق، موجة حادة من الانتقادات في وسائل الإعلام الدولية ولدى الفاعلين الثقافيين. دون حياء، تبنى النظام السوري استفزاز عبدلكي -الذي يمكن تفسيره أيضًا كرد فعل على تطرف داعش- ليدعي دعمه لحرية الفكر والتعبير، مغازلًا الانفتاح الغربي ودعمه للفنون الجميلة والثقافة.
منذ انطلاق الجدل بعد معرض عبدلكي، كُتب الكثير عن ضرورة قراءة الموقف ضمن منظور أوسع. من المنع غير الرسمي لتصوير العري إلى عجز الفنان السوري الحالي عن تصوير الحياة، فالجسد العاري يعكس، في المحصلة، الحالة الذهنية للفنان. إنه أكثر من شهادة، فهو يعكس الألم والرغبة والعنف، ويصور الوضع السياسي. إنه بعبارة أخرى مرآة البلاد. لطالما أحب الفنانون مدينة دمشق ومجدوها وقدروها، ووصفها الشعراء كما يصفون المحبوبة. يقول نزار قباني: "إلى كل فنادق العالم التي دخلتها.. حملت معي دمشق ونمت معها على سرير واحد". علينا إذًا أن نفهم أن الجسد المعذب والمنكسر والمحروق والمقطع الأوصال والممثل به هو البلاد نفسها: مشوهة.
دلفين ليكا، منسقة مستقلة
المراجع:
مقابلات مع منيف عجاج وعمار البيك ومحمد عمران، فنانون؛ ورفاه ناشد، محللة نفسية؛ ونادي عيساوي، عالمة اجتماع.
يوسف عبدلكي (من مواليد 1951)، فنان تشكيلي، مقيم في دمشق
سبهان آدم (من مواليد 1973)، فنان تشكيلي، مقيم في دمشق
منيف عجاج (من مواليد 1968)، فنان تشكيلي، مقيم في كورنياك سور ليل (فرنسا)
عمار البيك (من مواليد 1972)، مصور ومخرج، مقيم في برلين
نجاح البقاعي (من مواليد 1970)، فنانة تشكيلية، مقيمة في فونتينه لو كومت (فرنسا)
عادل داود (من مواليد 1980)، فنان تشكيلي، مقيم في فيينا
هالة الفيصل (من مواليد 1957)، فنانة تشكيلية ومؤدية، مقيمة في نيويورك
بهرام حاجو (من مواليد 1952)، فنان تشكيلي، مقيم في مونستر
سلافة حجازي (من مواليد 1977)، فنانة تشكيلية، مقيمة في برلين
آفو كابرياليان (من مواليد 1985)، سينمائي، مقيم في بيروت
فصيح قيسو (من مواليد 1956)، مقيم في دمشق وملبورن
ليلى مريود (من مواليد 1956)، مصورة فوتوغرافية، مقيمة في باريس
محمد عمران (من مواليد 1979)، فنان تشكيلي، مقيم في باريس
جيلان صفدي (من مواليد 1977)، فنان تشكيلي، مقيم في بيروت