المقال الأول بقلم فرديناند ريتشارد، رئيس مجلس إدارة مؤسسة روبيرتو شيمتا

Aug 2017

تنشر اتجاهات، ضمن برنامج أولويات العمل الثقافي السوري، سلسلة من مقالات الرأي بأقلام مجموعة من الخبراء والفاعلين الثقافيين السوريين وغير السوريين. يهدف هذا النشاط إلى تسليط الضوء على مجموعة من القضايا والتحديات التي تواجه العمل الثقافي السوري.

في المحور الأول، تتناول مجموعة من المقالات علاقة المضمون الفني مع الحدث العام ومفهوم الرسالة.

من يحدد اليوم عدد وطبيعة المعايير الفنية التي تحكم العملية الإبداعية السورية؟

ما هي خطوط ومحددات الرقابة الجديدة على الأعمال الفنية داخل سوريا وخارجها؟

كيف يمكننا استعراض حالات مشابهة من العالم والاستفادة منها؟

يجيب السيد فرديناند ريتشارد رئيس مجلس إدارة مؤسسة روبرتو شيمتا على هذه الأسئلة عبر مقالة خاصة لموقع اتجاهات أراد عنوانها أن يكون "المقال الأول".

 

يصعب عليّ، وأنا أكتب من منظور شخص غير سوري، الإجابة عن كل سؤال إجابةً كاملة. وبينما يحرص المرء على احترام الآلام المختلفة التي يعانيها الفنانون العرب هذه الأيام، ثمة دائمًا خطر التسبب بآلام غير ضرورية بسبب الإجابات غير الدقيقة.

في معرض الإجابة عن السؤال الأول، فإن مفهوم "المعايير الفنية" في جوهره مضاد للديمقراطية، حيث إن المنطلق الذي يجب على كل سياسة ثقافية أو فنية الإشارة إليه هو المادة الأولى من إعلان حقوق الإنسان، الذي ينص على أن "البشر جميعًا متساوون في الكرامة والحقوق". والمساواة في الكرامة تعني عدم قبول هيمنة ثقافة ما على غيرها، وأي تعديل في هذا المبدأ يكاد يشكل سلوكًا ديكتاتوريًا.

من الأهمية بمكان أن نتذكر أن هذه هي المادة الأولى (وليست المادة الثانية، ما يعني أنها المادة الأعم والتي تتبعها بقية المواد) وأنها تنطبق على كافة أشكال وتجليات الواقع، والتي يمكننا أن نسميها هنا "العمل الفني". وتنطبق كذلك على كافة أشكال التعبير الثقافي، بما في ذلك تلك الأكثر تواضعًا بينها. لهذا نجد أن بعضًا من أبرز صناع الفن يمكن أن يكونوا غير متعلمين أو أميين أو صغارًا جدًا أو معزولين أو غير محترفين، وأعمالهم الفنية تحتوي لغات غير مفهومة، ولكنها في الوقت نفسه عالمية. ليس جوهر الترجمة ميكانيكيًا، بل جوهرها تحولات الصوت، فالموسيقى شكل من أشكال الترجمة.

ورغم غياب أي علم يخبرنا كيف وُلِدت الموسيقى، يعتقد بعض الشعراء أنه في مرحلة مبكرة جدًا من عمر البشرية، حين كان البشر يستخدمون لغة بدائية ومحدودة تتألف من أصوات برية، شعر أحدهم بالألم الشديد نتيجة وفاة شريكه، فتغير حديثه مع الميت بفعل المعاناة، وبدأ يُنشِد. وكانت تلك لحظة ولادة الموسيقى من المعاناة. ولئن كانت المعاناة قد وصلت إلى مستويات لا تحتمل في الشرق الأوسط، فإنها أيضًا مادة خام (أو لعلي أصفها بأنها ركيزة) لصناعة الفن. أعلم أن فكرة كهذه قد تكون صادمة، ولكنها أيضًا الطريقة المثلى لإيجاد جانب إيجابي في هذه المعاناة. وقد كان الفن أيضًا وسيلة تواصل مع عالم الموتى، ومع المُغيّبين.

لذلك، لا يمكن لأي شخص أن يقرر، نيابةً عن الآخرين، ما هو "الجميل" أو "المبتكر" أو "القيِّم"، إلخ. إنها مقاربة شخصية وعاطفية. من الطبيعي أن يرغب الشخص في مشاركة مشاعره الشخصية مع الآخرين، ولكنها يجب ألا تكون مبدأ أعمى.

ويجب ألا يضطر أحد إلى التزام نموذج لم يختَره، ففي ذلك تناقض مباشر مع المادة الأولى من إعلان حقوق الإنسان.

أما فيما يخص مسألة الرقابة، فعبر التاريخ القديم والحديث، تتمحور مشكلات التعبير عن السلطة حول تزوير التاريخ. وهذا يعني أن السلطة تريد دائمًا إعادة كتابة التاريخ لتحقق أهدافها. ومن هنا، توضَع الأخلاق جانبًا على الدوام. لعل هذا من الطبيعة البشرية، ولعل تزوير التاريخ سيبقى جزءًا من الحياة اليومية، لا يمكن للفنان تجنبه أو عدم خوض صراع ضده. إن رواية الفنان لقصته هي في النهاية شكل من أشكال "تزوير التاريخ" أيضًا. إذ لا يمكن للمرء أن يروي إلا روايته الخاصة، المضادة للتزوير المهيمن. ويمكن أن يُنظَر لتزوير الحقيقة كقطعة فنية عظيمة. وتلك ليست مشكلة كبيرة بذاتها، فالمهم هو النية الكامنة وراء العمل.

أود أن أؤكد على أن الإطار الزمني هو المسألة الرئيسية في صناعة الفن. ورغم أن الفن السريع موجود، ويمكن أن يموت بعد ثوانٍ، فإن الفنان يكتسب المهارات الفنية ببطء ويصقلها باستمرار، ويجب حماية هذا الإطار الزمني.

إنه لمن الشجاعة أن يحافظ الفنان على مهاراته الفنية، لأنه ورثها ممن قبله وسيورِّثها لمن بعده. لغتي الفرنسية تختلف عن لغة أبي الفرنسية. ولغة حفيدي ستختلف عن لغتي. هذه التغييرات المتعاقبة هي عملية مستمرة لبناء الثقافة، ويجب احترامها. لا يملك الفنان الشكل الفني الذي يستخدمه، بل هو وسيط. وإذا دعت الضرورة، فلا بد للفنان من حماية ذاته من الدمار، وإذا كانت الرقابة الذاتية هي الأداء المناسبة، فليكن. أكرر أن المهم هو النية وراء العمل الفني.

بسبب هذه الحدود، يرث الفنان عددًا من الخيارات والمسؤوليات: ليس للفنان أن يعتبر عمله "أفضل" أو "أجمل" أو "أكثر شعبية" أو "أعلى قيمة" من أي عمل آخر. فالفنان في منتصف الطريق، سواء كان ذلك يؤدي للأفضل أو للأسوأ. ليس لأحد أن يطلق حكم قيمة عليه. على الفنان أن يتمنى الأفضل وألا يسمح لآلة السلطة والمال بسحقه، وأن يتبع طريقه.

يمر الفنان بعملية صناعة العمل الفني، والتي يمكن اعتبارها عملًا فنيًا غير مرئي. إننا نصنع العديد من الأعمال. وعلينا التركيز على المسارات المختلفة. مسار الفنان، من الولادة إلى الوفاة، هو بذاته عمل فني. فلنتذكر فان غوخ وأم كلثوم.

يجب على الفنان أن يقدم مقاربة مختلفة للواقع والتاريخ. وإن تعدد المقاربات ونسبيتها هي ما يتيح "للمستمع" الفرد أن يصنع مفهومه الخاص "للتاريخ". هذا المفهوم فريد ونسبي ومؤقت، ولا يمكن أن يتحول إلى مبدأ دائم. الحساء اللذيذ يُصنَع من مكونات مختلفة.

يحمل الفنان مسؤولية ما لا يملكه ملكية كاملة، ويحمل أيضًا مسؤولية مجتمعه.

لطالما كانت الرقابة الذاتية موجودة في كل مكان، وغالبًا ما كانت تتأثر بعوامل اقتصادية، إلى جانب العوامل السياسية. ويفترض كثيرون أن الاقتصاد والسياسة موضوعان منفصلان، ولكن ذلك ليس حقيقيًا. في اللغة اليونانية، كلمة politiki تعني سياسة، وكلمة politismos تعني حضارة. لعلهما مفهومان متداخلان؟

وأكرر، من يستطيع تحديد النية وراء كل عمل فني؟

أنا لا أستطيع ذلك...

 

فرديناند ريتشارد، مايو/أيار 2017


© الحقوق محفوظة اتجاهات- ثقافة مستقلة 2024
تم دعم تأسيس اتجاهات. ثقافة مستقلة بمنحة من برنامج عبارة - مؤسسة المورد الثقافي