
على الخطوط الأمامية: سوريا وفنونها على ضفاف وقتٍ جديد
كلمة مؤسسة اتجاهات - ثقافة مستقلة في أول فعالية لها في دمشق بعد 13 عاماً
مرحباً
في حوارٍ أُجرِي عام 2023 مع الصديقة والمخرجة السينمائية هالة العبدالله حول فيلمها أميرالاي: الألم، الزمن، الصمت، والذي يتضمن مقاربتها لسيرة السينمائي الراحل عمر أميرالاي، قالت: بالزمن الطويل أو الزمن القصير، بالصمت أو بالقول، بالألم أو بالمقاومة، هذه المفردات الثلاث تعبّر، بالنسبة لي، عن عمر وعن الفيلم.
أقتبس من هالة لأن ذكرى رحيل عمر أميرالاي حلّت البارحة. على مرّ أربعة عشر عاماً منذ رحيله، كانت ذكراه فرصة للكثير منا لاستحضار عمر، الذي صاغ بأعماله وحياته وإصراره على قِيَم المواطَنة، سردية تؤكد أن مواطنات ومواطني سوريا قادرون على ابتكار الحياة في مواجهة عقود من الظلم والقمع وكم الأفواه، ولمقاومة الظلم بأحلك أشكاله.
ذكرى رحيل عمر هذه مختلفة، لا لأن السماء أمطرت في دمشق بعد انقطاع طويل فحسب، بل لأن المدينة، مدينتَه، استعادت ذاتها، وكما قال الأستاذ والصديق يوسف عبدلكي البارحة، أصبحت السماء الآن أقرب إلى أيدينا.
نجري اليوم أول لقاء لمؤسسة اتجاهات في سوريا بعد غياب استمر أكثر من 13 عاماً. ما الذي حدث في سوريا خلال هذه الأعوام؟ واجهت سوريا الهول وانتصرت عليه. انتصرت بقرار مواطناتها ومواطنيها بالإصرار على أن لهم الحق في أن يكون لديهم خيار آخر. كان ثمن هذا القرار باهظاً، من قمع وقتل واعتقال وتغييب وإقصاء وتمزيق للنسيج الاجتماعي وتدمير لمقدرات البلاد، ومصادرة حاضره ومستقبله، ومحاولة تشويه ماضيه، وتحويل أكثر من نصف سكانه إلى نازحين داخل البلاد ولاجئين خارجها، وشق الصف إلى "داخل" و"خارج"، ثم زرع الانقسام في الداخل وفي الخارج. وأُضيفت إلى القاموس السوري مفردات ومفاهيم جديدة أصبحت عناوين للحياة اليومية: التشريد والتهجير والإفقار واللجوء والقتل والخطف والبراميل المتفجرة.
في ظل هذا الجنون الذي قاده نظام مجرم ودموي، يسعى يومياً للانتقام من الشعب السوري، وبتواطؤ من أنظمة عالمية كارهة للحياة وإقصائية ومدمرة لحقوق الإنسان الأساسية، المتمثلة بالحرية والعدالة والكرامة، كان على السوريات والسوريين أن يذكروا أنفسهم يومياً بأنهم أصحاب حق، وبقول الكاتب سعد الله ونوس: "ما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ".
منذ اليوم الأول للثورة، حضرت الثقافة والفنون في صميم سرديتها، وكان خيار العاملات والعاملين في هذا القطاع، وأتحدث الآن عن عدد كبير من الحاضرات والحاضرين هنا الآن وعن أصدقاء رحلوا دفاعاً عن الحق بالكرامة والحرية وإحياء الحياة الديمقراطية، المطابقة بين خياراتهم كمواطنين ومواطنات، وبين العمل الذي يتقنونه وهو الفن.
ماذا فعلت الفنون خلال هذه السنوات؟ كل ما كانت تستطيع فعله، من الاحتفاء بقيم الثورة السلمية إلى مواجهة سرديات الإقصاء من كل قوى الكراهية التي حاصرتها، كما ساهمت في أن نتلمس بشكل عملي مفاهيم مجردة كالعدالة والحق والحرية في وقت كان يحق لنا فيه أن نشكك في هذه المفاهيم، وساعدتنا أيضاً على التأكيد أن السوريين أصحاب قضية محقة وأن المطالبة بها أساس أي مقترح في المستقبل رغم التوحش اليومي الذي واجهه السوريون في كل العالم.
خلال الأربعة عشر عاماً الماضية، حاولنا كمؤسسة انطلقت من سوريا أن نكون جزءاً من هذا الاستحقاق النوعي الذي اختار الفنانون والعاملون في المجال الثقافي، في مسار الفنون، من أفراد وتجمعات وكيانات، العمل عليه بشكل يومي سواء داخل سوريا أم في المنطقة العربية أم في مهاجرهم المتنوعة.
خيارنا أن نكون مؤسسة وسطية، وفهمنا لذلك هو بذل قصارى جهدنا للمساهمة بفعالية وحيوية في القطاع الثقافي والفني بمختلف أشكال التعبير الإبداعي التي يشملها، وأن نضمن أن تكون الفنون السورية حاضرة في المنصات الدولية، وأن نساهم في تخفيف الانقطاعات والشروخ التي كانت تباعد بين الفنانات والفنانين السوريين وتمنع تمتع السوريين بحقوقهم في الفنون وقدرتها النوعية على توثيق الحكايات خارج ادعاءات المنتصرين، وعلى تضميد الجراح.
حاولنا أن نحقق ذلك من خلال أدوار وجدنا ضرورة التركيز عليها، وعكسناها ببرامج أوجدت أطر إنتاج وتدريب وبحث وعمل فني متنوع. هذه الأدوار توسعت بعد عشر سنوات من تأسيس اتجاهات لتضم مساهمات من بلدان من منطقة المشرق العربي، بشكل أساسي لبنان وفلسطين، مع مهاجر سوريا والمنطقة العربية في أوروبا. نتج هذا التوسع عن قناعتنا بأن القضية السورية هي في صميمها قضية عدالة، وأن التضامن الفعال مع دول المنطقة العربية التي تعاني من غياب العدالة هو أحد الضمانات على الحفاظ على الحق في القضية السورية.
ساعدنا ذلك على فهم مهمة عملنا على أنه محاولة مستمرة لرفض التطبيع، مع أن سوريا تحولت لأرض الكوارث، ولم يكن في إمكاننا فعل أي شيء بهذا الخصوص سوى قبول هذا الواقع. اليوم، سوريا هي مصدر إلهام وتعلم لمواجهة الظلم الاجتماعي.
نحضر معكم اليوم، ونحن مقتنعون أن اللحظة الحالية هي لحظة تاريخية بكل جمالها وحيويتها وهشاشتها وتحدياتها واستحقاقاتها، وأن الفنون والثقافة هي من أهم الضمانات للحفاظ على دفق وخصوصية هذه اللحظة ومواجهة الأخطار المرافقة.
في كتابه الفن والاضطراب: فنانون على الخطوط الأمامية في العالم، يقول وليام كليفلاند أنه "في وجه الدمار، نحن مضطرون للإبداع". وأظن أن هذا الاقتباس هو جوهر عملية صنع الفن خلال الصراعات وبعدها.
لدى الفنون القدرة على إشراك مواطنين متنوعين، وعلى اكتشاف أشكال جديدة للتعبير، وخلق منصات يمكننا من خلالها الإصغاء إلى قصص غير مسموعة. الفنون كما رأينا في سوريا تستطيع المحافظة على الأمل في ظروف القمع الثقافي والسياسي. الإنتاج الفني والإبداعي قادر على تعزيز خصوصية المجتمعات المحلية، وفي الوقت نفسه يبني جسور التفاهم والاحترام بين هذه المجتمعات على أسس المواطنة، وبالتالي يحمي التنوع.
لعله من الصعب التوصل إلى إجابات سهلة فيما يتعلق بالثقافة، لكن طرح الأسئلة الصحيحة يمكن أن يساهم في ذلك. لا يكفي اكتساب الأدوات التقنية أو فهم النظريات الثقافية، وتحديداً تلك المتعلقة بالتغيير الاجتماعي، إذ من الأهمية بمكان فهم التصورات التي تتشكل عند المجتمعات السورية عن أي مشروع ثقافي يستهدفها، لذلك على أي فعل ثقافي اليوم يتوجه إلى سوريا أن يضمن إشراك مؤسسات المجتمع المدني والمجتمعات التي يستهدفها.
من المطمئن أن العاملين في الثقافة والفنون كانوا خلال السنوات الأربعة عشرة الماضية يعملون، وكانوا على تماس مع أسئلة سوريا، وتصلح العديد من المشاريع التي نفذت داخل سوريا وخارجها لأن تكون نماذج للتعلم منها والبناء عليها، وكل ذلك ممكن اليوم لأن أسس التغيير الثقافي الذي نأمل تحقيقه ممكنة: بدء التحرر من ثقافة الخوف، وجود إطار يسمح بمواجهة الإخضاع الثقافي بعد عقود من هيمنة أشكال محددة لإنتاج الثقافة، وجود مجتمعات سورية غنية ثقافياً، ظهور صوت الهامش، وولادة فاعلين ثقافيين جدد. لكن أسس التغيير الثقافي تحتاج إلى بيئة سانحة كي تزدهر فيها، ومن أهم مقوماتها ضمان حرية التعبير بكل أشكاله، وضمان تواصل الفعل الثقافي مع الشأن العام.
منذ 8 كانون الأول، بدأ فريق اتجاهات مسار نقاش وتفكير حول آليات مساهمة المؤسسة في حجم التغيير الحاصل، نحاول الإنصات إلى كافة الأفكار والمقترحات التي يقدمها قطاع الفنون الحيوي، سواء تجاه استحقاقات البلد الكبيرة اليوم، أم تجاه المجتمعات السورية في البلد ومهاجره، أم تجاه أولويات العمل ضمن القطاع الثقافي ورؤيته للمؤسسة الرسمية والأدوار المتنوعة التي تمارسها لضمان كونها مؤسسة وطنية، وكيف يمكن للقطاع الثقافي أن يكون فعالاً في سوريا كلها، خارج المدن الرئيسة، والأدوار التي يستطيع المهجر الفني المساهمة عبرها. هذا النقاش المستمر، وجلسة اليوم جزء منه، سيكون الإطار الذي سيساعدنا على تصميم تدخلاتنا في المرحلة القادمة، لنكون جزءاً من حياة عامة تقدم فيها الفنون والثقافة مساهمتها.
باسم أعضاء الجمعية العمومية ومجلس إدارة اتجاهات وفريقها التنفيذي، أتوجه بشكر كبير للفنانات والفنانين والعاملات والعاملين في الفنون والثقافة والتراث، الذين رافقونا خلال مسارنا في سوريا وخارجها، والذين كانوا، من خلال عملهم وتحليهم بالمسؤولية تجاه البلاد وأهلها، ضمانة كي نجد أسباباً للأمل رغم الصعوبات التي خضناها. كل الأمل أن يُكشَف مصير زميلاتنا وزملائنا من المغيبين قسراً وأن يعودوا سالمين ونلتقي بهم، والرحمة والسلام لأرواح شهداء العاملين في قطاع الفنون والذين غمرونا بشجاعتهم وفنهم ونضالهم داخل سوريا وخارجها.
أود أن أختتم بالعودة إلى مقابلة هالة العبدالله حول تصوير فيلم عمر، الذي بدأت العمل عليه في عام 2009. حينها قالت لعمر إنها ترغب في صنع فيلم عنه، فدعاها للتصوير في بيته في دمشق، حيث قضى سنوات يعتني بوالدته المريضة. لم تكن هالة مستعدة للتصوير، ولكن عمر أعطاها الكاميرا وشجعها على ذلك. صورته بطريقة عفوية وارتجالية وأنجزت مسودة للفيلم. جمعت هالة المواد وسافرت لتحضر وتعود بعد فترة مع فريق احترافي. مرّت الأيام وتوفيت والدة عمر وبعدها توفي عمر.
مع انطلاق الثورة، نسيت هالة المواد لأن ذاكرتها تراجعت بعلاقتها مع أي شيء قبل الثورة، وصارت تراكم فقط كل ما له علاقة بيوميات الثورة الساحرة بدايةً، والتراجيدية لاحقاً. فجأة في العام 2018، تتذكر هالة المواد بعد أن نسيت المسودة التي صورتها، تقول هالة: كأنني رغبت في البحث عن ضوء في مكان ما مع كل السواد الذي يحيط بنا، فكان هذا الفيلم.
لدي رغبة شديدة في النظر للفنون اليوم على أنها ضوء يخفف من كل السواد الذي رافقنا.
شكراً
عبدالله الكفري
المدير التنفيذي لمؤسسة اتجاهات - ثقافة مستقلة
06 شباط/ فبراير 2025، دمشق، سوريا